يونيو 11, 2017
مقالات تربوية
سيرورة تطور النظام التعليمي المغربي عبر العصور
على مر الحضارات التي تعاقبت على تاريخ المغرب القديم والوسيط، كان أجدادنا المغاربة يبدعون في مجالات مختلفة، ويقدمون أمثلة عديدة على التطور الكبير الذي حققوه في مجالات الطب والعمارة والبناء والعلوم والأدب والشعر، في وقت كانت فيه أوروبا لا تزال غارقة في بحر من الجهل والتخلف والأمراض، وهذا ما دفع بعدد من العلماء الأوروبيين الى ترجمة أعمال الأطباء والعلماء المغاربة ومحاولة الاستفادة منها، في أوروبا، وكمثال بسيط على ذلك، فإن جامعة القرويين لعبت دورا كبيرا في انتشار العلوم والأرقام العربية إلى ربوع أوروبا... في هذا الخاص نتوقف لنلقي الضوء على أبرز مفاخر المغرب المنسية التي قد لا يعرف عنها الجيل الحالي أي شيء تقريبا..مع بداية العهد المريني تحول النظام التعليمي بالمغرب من نظام للدراسة الحرة التطوعية إلى نظام للدراسة النظامية، وانتقل فضاء التدريس تدريجيا من المساجد والزوايا إلى مدارس مخصوصة معدة لإلقاء الدروس تحت إشراف أساتذة يتلقون رواتب قارة، وقُدمت للطلبة منح تعينهم على متابعة دروسهم وتشجعهم على مواصلة مشوارهم العلمي، ووفرت للآفاقيين منهم مآوي للسكن، مما بدا معه أن النظام التعليمي المغربي قد عرف تحولات عميقة واكبت باقي التطورات التي عرفها المجتمع، مع حفاظه على العديد من الثوابت التي ميزته في العهود السابقة ومن أهمها الثوابت الأخلاقية والقيمية ومكانة العالم والمعلم في المنظومة التربوية.
الراتب في النظام التعليمي المغربي
لابد من الإشارة إلى أن الوازع الديني قد صرف الكثير من العلماء والمعلمين عن الاشتغال بالدنيا وعن قبول الأجر نظير أدائهم لرسائلهم العلمية، وقد كان التدريس في غالب الأحيان عملا تطوعيا يقوم به المعلم ابتغاء الأجر والمثوبة من الله ، ومع تطور أساليب العيش وظهور التعليم النظامي بالمغرب وظهور الحاجة إلى التفرغ لممارسته لبلوغ الأهداف المنشودة منه، لم يعد العمل التطوعي وحده كافيا في حقل التعليم، وصار الراتب ضرورة ملحة لتحقيق شرط التفرغ والانقطاع لأداء هذه المهمة النبيلة التي يعول عليها المجتمع في بناء المواطن الصالح، وقد أشار الدكتور سعيد بنحمادة في كتابه «النظام التعليمي بالمغرب والأندلس خلال العصر الوسيط» إلى أن تحرج أحد المعلمين من الأجر بلغ به «أن يتوكأ على عصاه واقفا لا يقعد، إلى وقت انصراف الصبيان من المكتب، ثم تصدق بجميع ما اكتسب في وقت التعليم خوفا أن لا يكون وفى بما عليه من الحقوق».
وقد استفتي أبو عثمان سعيد العقباني في مسألة أخذ الأجرة عن تعليم العلم فأجاب بالإباحة معللا موقفه الفقهي بأن ضعف أرزاق العلماء قد يكون سببا في ضياع العلم، وأن طلب المعيشة قد يشغلهم عن التعليم، وإذا كان الوقف هو المورد الأول لرواتب العلماء والمدرسين فقد كانت هناك موارد أخرى لا تقل أهمية ساهمت في ضمان أجور قارة للمشتغلين بالتدريس ولسائر المساهمين في خدمة التعليم، ومن ضمن هذه الموارد هبات السلاطين والأمراء، يقول ابن أبي زرع متحدثا عن مدرسة العطارين التي بناها أبو سعيد المريني «ورتب فيها الفقهاء لتدريس العلم، وأسكنها بالطلبة وقدم فيها إماما ومؤذنين وخدمة يقومون بأمرها وأجرى على الكل منهم المرتبات والمؤن، واشترى الأملاك ووقفها عليها».
ومن هذه الموارد أيضا مساهمات الأهالي والمحسنين وأولياء أمور الطلبة والمتمدرسين، وقد تعارف الناس على تقديم الهدايا للمعلمين كلما انتقل أولادهم من مستوى تعليمي إلى آخر وكان الطفل إذا اختتم القرآن خصصوا له وليمة كبيرة واحتفالا عظيما دعوا له المدرسين وسائر التلاميذ وأغدقوا فيه على المدرس بحسب قدرة الولي المالية ويسره. وإضافة إلى الرواتب القارة فقد كان المدرسون يتلقون مكافآت شهرية تسمى ب «حق الشهر والحذاق «وأخرى موسمية تسمى «خميس الطالب».
منح الطلبة
لم يكن سهلا على الطالب المغربي أن يتنقل بين المدن المغربية طلبا للعلم في سالف الأزمان، وقد التفت المجتمع المغربي إلى ضرورة تيسير سبل العلم للوافدين من خارج المدن التي عُرفت كمراكز ثقافية تستقطب العلماء والطلبة من سائر بلدان العالم ، فخصص جزءا هاما من النفقات التعليمية لمنح الطلبة وإيوائهم لئلا يشغلهم شاغل عما هم مقبلون عليه، يقول ابن أبي زرع متحدثا عن السلطان أبي يوسف المريني: «وبنى المدارس بفاس ومراكش ورتب فيها الطلبة لقراءة القرآن والعلم وأجرى لهم المرتبات كل شهر».
وقد ذكر «ليون الإفريقي» أن الطلبة كانوا يستفيدون من الكسوة والسكنى والتموين داخل المؤسسات التعليمية «وقد بنى أبو الحسن المريني أيام ولايته للعهد فندقا لسكنى الطلبة وأجرى عليهم النفقات، ويشار هنا إلى أن المغاربة وضعوا ضوابط صارمة على ولوج مآوي الطلبة حتى لا تصير مرتعا لمن هب ودب، يقول عبد الله العبدوسي: «إنما يسكن المدرسة من بلغ عشرين سنة فما فوقها وأخذ في قراءة العلم ودرسه بقدر وسعه، ويحضر قراءة الحزب صبحا ومغربا ويحضر مجلس مقرئها ملازما لذلك إلا لضرورة من مرض وشبهه من الأعذار المبيحة لتخلفه « وكان الطالب إذا تجاوز عشرة أعوام في سكنى الطلبة ولم تظهر نجابته أخرج منها، فالسكن على هذا النحو كان منحة للطلبة المتفوقين والنجباء، وكان يشتمل على كل ضروريات الحياة من ماء وإنارة وأغطية وأماكن معدة للصلاة وأخرى للنوم والطعام .
أهمية الضوابط الأخلاقية
شدد المغاربة على أهمية الضوابط الأخلاقية في العملية التعليمية التعلمية وألزموا الطلبة والمعلمين والعلماء بالتقيد بحد أدنى من الأخلاق لايمكن التنازل عنه، لضمان استثمار التعليم على أحسن وجه، وقد تبوأ رجل التعليم مكانة هامة في المجتمع المغربي في أزمنة الرقي والازدهار، وكان مثالا يحتذى به في خلقه وسلوكه، ويكفي هنا أن نسوق بعض النماذج من المعلمين الذين آمنوا بنبل رسالتهم وضربوا أروع الأمثلة في التفاني في أداء واجباتهم دون أن يكون همهم ما سيتحصل في أيديهم من وراء ذلك من عوائد مادية أو امتيازات أو غير ذلك من أنواع الاستفادة، فقد أورد المؤرخون أن أبا العباس أحمد السلاوي من معلمي القرن السادس كان أستاذا في النحو يقبل الإجارة ممن أعطاه من غير مسألة، فإذا أخذ ذلك ممن يدفعه له أعطاه للفقراء ممن يحضر عنده، وبفاس كان أبو عبد الله التاودي المتوفي عام 580 ه يأخذ الأجر من أولاد الأغنياء ويصرفه على أولاد الفقراء، وكان أبو إسحاق الهزرجي المتوفي عام 581 ه يتفقد الصبيان بمكاتبهم بمراكش فيسأل عن أولاد الفقراء والأيتام فيكسوهم ويشتري الطرف في أول إبانها فيفرقها عليهم، إن هذه النماذج المشرقة من المعلمين لم تكن وليدة صدفة ولم تكن طفرة خارج مألوف الحياة المدرسية المغربية، فلم يكن يعهد بالقيام بوظيفة التدريس لغير الأكفاء أولا، ثم إن المجتمع كان يشدد على شروط أخلاقية أخرى إلى جانب شرط الكفاءة أهمها أن يكون المعلم متزوجا حتى يكون اختلاطه بالصبية والمراهقين بعيدا عن الشبهة، وأن يكون معروفا بالاتزان والتعقل، شيخا دَينا عفيفا، وألا يكون ميالا للبطالة حريصا على حوائج صبيانه متفقدا لهم في سائر شؤونهم وكان أنسب سن للتصدي للتدريس هو سن الخمسين ففيه يكتمل عقل الرجل ويتزن سلوكه وتخف حدة انفعالاته.
وقد حرص المغاربة على منع الاختلاط بين الفتيات والفتيان داخل المدارس المغربية، وخصصوا للفتيات دورا خاصة يرتدنها لتعلم القراءة والكتابة والقرآن والحساب والصنائع، وكل ما ينفعهن في شؤون حياتهن، في زمن كان الحديث فيه عن حق المرأة في التعلم ضربا من ضروب الخيال، ويبدو أن تقييد تعليم المرأة بمنعها من الاختلاط كان ينبع من رؤية أخلاقية مناسبة لتلك الأزمنة، فقد رأى المغاربة في الاختلاط حينها مدعاة لصرف همم الفتيان والفتيات عن الاشتغال بالعلم.
وكما وضع المجتمع قواعد صارمة في انتقاء المعلمين فقد وضع قواعد تلزم الطلبة بآداب كثيرة أثناء تلقيهم للعلم أهمها تقدير معلميهم والتقيد بحصص الدرس حتى لا يذهب جهد المعلم سدى، وقد حفظت كتب التاريخ نوادر عجيبة عن حرص طلبة العلم المغاربة على بذل الغالي والنفيس في سبيل المعرفة، فقد ذكروا أن عبد الرحمن بن محمد بن العجوز المتوفي عام 515 ه قضى خمسة عشر عاما يسهر الليل في التعلم ويصلي الصبح بوضوء العتمة، وقد سئل طالب مغربي بما أدرك العلم فأجاب « بالمصباح والجلوس إلى الصباح «، فكان الانضباط من أهم العوامل التي ساعدتهم على بلوغ أهدافهم ونيل مطالبهم .
صلاحيات المعلم
مثلما شدد النظام التعليمي المغربي على ضرورة توافر الكثير من الشروط في المدرس قبل اضطلاعه بمهام التعليم ، فقد منحه صلاحيات واسعة في انتقاء البرامج التعليمية واختيار الأنسب منها لطلبته كما منحه سلطة اعتبارية داخل المجتمع مكنته من مراقبة طلبته داخل الفصل وخارجه، وصار حضوره في حياة طلبته متعدد الأبعاد فهو الموجه والمربي والمرشد والقدوة قبل أن يكون معلما لبرامج قد لا تؤتي أكلها إذا انعدمت الصلة الروحية بينه وبين طلبته، وقد بلغ من حرص المعلم على طلبته أن ينهاهم عن كل ما من شأنه أن يصرفهم عن العلم، ويروى أن أحد الأساتذة عاتب طالبه بسبب إهماله لواجب دراسي فاعتذر الطالب بأن أحد أقربائه بات عنده فمنعه واجب ضيافته من إنجاز الواجب، فما كان من الأستاذ إلا أن زجره وقال: «تركت وطنك وأتيت لطلب العلم ثم تفرط ولا تجتهد... ما ينبغي لطالب العلم أن يبيت عنده أحد، ولا أن يبيت عند أحد ولا ينزل عنده ضيف ولا ينشغل بأحد من معارفه ولا يصرفه عن ماهو بسبيله».
وقد نقل عن أبي بكر ابن زهر أنه وقف على اشتغال اثنين من طلبته بالمنطق فوبخهما وعزم على ضربهما بحذائه ففرا من وجهه ثم رجعا إليه لاحقا يعتذران ، إذ لم يكن مقبولا أن ينشغل الطالب بغير ما يلزمه به أستاذه حتى تتحصل لديه أدوات الفهم ويصبح قادرا على التمييز بين السقيم والصحيح من المعارف والعلوم، ولم يقف تدخل المعلم عند حدود اختيار المادة التعليمية الملائمة لطلبته ومراقبة مستوى فهمهم وانضباطهم في إنجاز واجباتهم بل تعدى كل ذلك إلى مراقبة سلوك الطلبة، وحسبنا هنا أن نسوق نموذجا فريدا يوضح اتساع سلطات الأستاذ المربي في المنظومة التربوية المغربية التقليدية، فقد كان عبد الله بن ياسين في رباطه يؤدب طلبته بالسوط إن خالفوا
تعليماته وفيهم الصغير والكبير، فيمتثلون ولا يعدون ذلك هدرا لكرامتهم ما داموا يقبلون عليه طوعا لا كرها.
يوسف الحلوي
ليست هناك تعليقات: